التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الإعلام والحتمية القيمية (قراءة تعريفية سريعة)


مقدمة:

مع أن علوم الإعلام والاتصال من العلوم الجديدة التي تبحث لها عن هوية خاصة بها، انطلاقا من أن نشأتها كانت بعد تقاطع عدة علوم كالعلوم السياسية وعلم الاجتماع، والفلسفة وعلم النفس.. إلا انه شهد عدة تنظيرات منها ما كان مستندا إلى الفكر الاجتماعي بصفة عامة ومنها ما استند إلى الممارسة الإعلامية بشكل خاص، منها ما اشتغل أصحابها بالظاهرة الاتصالية على مستواها الكلي (maco level)، ومنها ما جزّأ أصحابها نظرتهم إلى العملية الاتصالية إلى مستوياتها الضيقة (micro level).
ولا شك أن المساهمة العربية- الإسلامية في مجال الأبحاث الإعلامية اقتصرت على محاولات إسقاط النظريات الغربية على خصوصية المجتمع المحلي، أو في إعادة قراءة التراث فيما يسمى "بالإعلام الإسلامي". في ظل هذا الواقع الأكاديمي الذي اتّسم بكثير من الجمود والخجل من المبادرات العلمية الحقيقية، جاء المفكر الجزائري "عبد الرحمن عزي" ليحرّك المياه الراكدة في نهر الأبحاث العربية- الإسلامية في مجال الاتصال، بمجموعة من الدراسات العلمية الرصينة والأصيلة والمترابطة. أما الرابط بينها فهي أنها كانت تستند إلى متغير رئيسي واحد هي القيم التي مصدرها الدين؛ ما أنتج نظرية جديدة في علوم الإعلام والاتصال هي: "نظرية الحتمية القيمية في الإعلام".

أولا/ من هو عبد الرحمان عزي؟

تحصل المفكر الجزائري عبد الرحمن عزي على شهادة الليسانس في الصحافة من جامعة الجزائر عام (1977) وعلى شهادة الماجستير في الصحافة عام (1980) وعلى الدكتوراه في سوسيولوجيا الإعلام عام(1985) من جامعة نورث تكساس بأمريكا. وقبل ذلك، عمل الأستاذ محررا (تغطية الأخبار المحلية) في جريدة "الشعب" اليومية (الجزائر) لمدة سنتين. و تتجاوز خبرته في التدريس و البحث و الإشراف 24 سنة إذ عمل كمدرس لمدة 3 سنوات في جامعة نورث تكساس ، ثم كأستاذ مساعد فأستاذ مشارك فأستاذ لمدة 11 سنة بمعهد علوم الإعلام و الاتصال، جامعة الجزائر ثم كأستاذ لمدة 3 سنوات بقسم الاتصال بالجامعة العالمية الإسلامية ماليزيا ثم كأستاذ بقسم الإعلام بجامعة الملك سعود لمدة 4 سنوات، أستاذ بقسم الاتصال الجماهيري بجامعة الإمارات العربية المتحدة لمدة 4 سنوات، ثم أستاذ بكلية الاتصال، جامعة الشارقة منذ 2006 (1).
ولا شك أن كل باحث -كما أشار عبد الرحمن عزي نفسه- متأثر (عن وعي أو غير وعي) بخلفيته وتجربته ومجموعة من المؤثرات الثقافية المتعددة كالمكان والزمان(2). لذلك فإن فكر البروفيسور عزي لم يكن لينفصل عن البيئة التي نشأ وترعرع فيها فقد ذكر أنه فطم في بيئة (بني ورتيلان الأمازيغية الواقعة شرق الجزائر) مفعمة بالتعاليم الدينية وحفظ القرآن(3). كما أن إقامته بأمريكا بعض الوقت واحتكاكه المباشر مع أتباع مختلف النظريات، جعله -كما اعترف بذلك هو نفسه- يدخل إلى مجال التنظير في الاتصال تحت تأثير بعض أدوات المنهجية الغربية. وقد رأى أن ذلك أمرا عاديا إذا اعتبرنا أن المنهجية تولد أدوات أو (طريقة) عقلانية أو واقعية في الوصول إلى مجموعة من الحقائق النسبية. فالأدوات تملك مجالا مستقلا، أي محايدا نسبيا(4). وقد مكنته تلك الأدوات من النظر إلى الذات والثقافة من زاوية خارجية، ما حفّزه للنّبش في التراث، فدرس ابن خلدون والنظرية الغربية، واستوقفته إسهامات مالك بن نبي أين أضاف عامل الإعلام إلى العناصر الأخرى المكونة لنظريته (الإنسان والتراب والزمان). ورغم أن إسهامات العلماء المسلمين الأوائل في نظرية الاتصال غير واضحة إلا أن عبد الرحمن عزي وجد في مناهجهم ما كان سندا أساسيا في تطوير نظريته (5).
ومن المهم التأكيد على أن المفكر الاتصالي عبد الرحمن عزي لا يطرح نفسه "تأصيليا" بما تواضع عليه مفكرو الأسلمة من أمثال رواد مدرسة (معهد الفكر الإسلامي) بهرندن فيرجينية، مع أنه كان لسنوات أستاذا بالجامعة العالمية الإسلامية بكوالالمبور التي اعتبرها كثيرون موئل فكر الأسلمة الحديث (6)، ويرى أن إضفاء الأسلمة على المعرفة الموجودة هو من باب الكسل الفكري والخوف من الاندماج في الآخر (7).

ثانيا/ نشأة نظرية الحتمية القيمية في الإعلام ومفاتيح فهمها:

رغم أن جل دراساته -منذ أول دراسة كتبها عندما عاد إلى الجزائر عام 1985م- تميزت باستناده إلى انتمائه الحضاري(8)، إلا أن عبد الرحمن عزي صرّح أنه بدأ فعليا تحديد مسار نظريته بتقديم النظرية الاجتماعية الغربية الحديثة وتكييفها مع الواقع الجديد وعلاقاتها بالاتصال، في كتابه: "الفكر الاجتماعي المعاصر والظاهرة الإعلامية الاتصالية: بعض الأبعاد الحضارية"(9). أما عن تسميتها بـ: "نظرية الحتمية القيمية في الإعلام فيعود الفضل في ذلك إلى طالبه وزميله الآن في جامعة الشارقة الأستاذ الدكتور نصير بوعلي(10). وذلك بعد معارضتها بالحتمية التكنولوجية لمارشال ماكلوهان في دراسة مهمة قام خلالها بمقارنة قيمة بين النظريتين(11).
ولقراءة النظرية وفهمها فهما صحيحا قدم نصير بوعلي في إحدى دراساته* ما اصطلح عليه "بمفاتيح" النظرية ، وتتمثل هذه المفاتيح استنادا إلى المقاربة البنيوية في(12):
1- إن نظرية الحتمية القيمية في الإعلام كبنية تتضمن عناصر البناء التالية:
أ- علوم الإعلام والاتصال كمادة خام.
ب- الفكر الاجتماعي المعاصر في القرن العشرين كمادة مستوردة.
ج- التراث العربي الإسلامي على سبيل الاجتهاد وليس النقل كمادة محلية.
د- القرآن الكريم بمثابة الاسمنت الذي يمسك النظرية بإحكام.
2- أسبقية النظرية ككل على الأجزاء: فنظرية الحتمية القيمية في الإعلام هي ذلك الكل المركب من دراسات وأبحاث نظرية عبد الرحمن عزي، ويستحيل فهمها ما لم يكن هناك إلمام بعدد معتبر من دراساته التي تزيد عن خمسين دراسة تنطلق كلها تقريبا من إشكالية واحدة هي كيفية فهم الظاهرة الاتصالية والإعلامية فهما قيميا وحضاريا.
3- أسبقية العلاقة على الأجزاء أو القيمة المحددة لها: تتضح هذه النظرية أكثر عند إمعاننا النظر في العلاقة التي تحكم دراسات عزي عبد الرحمن، لأن ذلك سيقود إلى التغلغل في الدواخل وتوليد المعاني العميقة للنظرية(...) وتعتبر القيمة هي الحلقة أو العلاقة بنيويا التي تمسك أبحاث المفكر وتجعلها مساقط لا تتحرك إلا ضمن دائرة النظرية.
4- إن عناصر نظرية الحتمية القيمية لا تحمل أي معنى إلا في إطار السياق العام؛ أي يجب استحضار العوامل الاجتماعية والثقافية والحضارية والتاريخية التي ساعدت على تبلور هذه النظرية.

ثالثا/ افتراضات وركائز النظرية:

تنطلق النظرية من افتراض أساس يعتبر الإعلام رسالة وأهم معيار في تقييم الرسالة هو القيمة التي تنبع أساسا من المعتقد. ولذلك فإن تأثير وسائل الإعلام يكون إيجابيا إذا كانت محتوياتها وثيقة الصلة بالقيم، وكلما كانت الوثائق أشد كان التأثير إيجابيا. وبالمقابل، يكون التأثير سلبيا إذا كانت المحتويات لا تتقيد بأية قيمة أو تتناقض مع القيمة، وكلما كان الابتعاد عن القيمة أكبر كان التأثير السلبي أكثر (13). ويعتبر مفهوم السالب والموجب من بين المفاهيم الجديدة التي قدمها عبد الرحمن عزي بالإضافة إلى المخيال الإعلامي (في مقابل الرأي العام)، والزمن الإعلامي، والرأسمال الإعلامي الرمزي، والوضع و الخيال "والتمعقل" (من استخدام العقل) وفعل السمع والبصر، والبنية القيمية وغيرها(14). وهي بمثابة مباحث فرعية يرتكز عليها النسق الكلي وهو النظرية.
أما أهم الركائز –المبدئية- التي تقوم عليها النظرية فتتمثل حسب عبد الرحمن عزي في(15) :
- أن يكون الاتصال نابعا ومنبثقا من الأبعاد الثقافية الحضارية التي ينتمي إليها المجتمع.
- أن يكون الاتصال تكامليا؛ فيتضمن الاتصال السمعي البصري، والمكتوب والشفوي الشخصي،مع التركيز على المكتوب لأنه من أسس قيام الحضارات.
- أن يكون الاتصال قائما على مشاركة واعية من طرف الجمهور المستقبل لا أن يكون أحاديا متسلطا.
- أن يكون الاتصال دائما حاملا للقيم الثقافية والروحية التي تدفع الإنسان والمجتمع إلى الارتقاء والسمو.

رابعا/ ماذا عن الإعلام الإسلامي؟

تجدر الإشارة إلى أن نظرية الحتمية القيمية في الإعلام ليست هي ما اصطلح على تسميته "نظرية الإعلام الإسلامي" حيث يرى عبد الرحمن عزي في معرض إجابته عن أحد الأسئلة الموجهة إليه على الموقع الالكتروني الخاص به (16) أن الفرق بين الاتجاهين يكمن:
أولا/ في المنهجية، فالإعلام الإسلامي يقوم على سرد النصوص بذاتها دون إتباع منهجية محددة في قراءة النص أو ربطه بواقع الظاهرة الإعلامية المعاصرة، وكان ذلك عاملا في وصول هذا الطرح إلى طريق شبه مسدود، حيث لم ينتج نصا معرفيا بارزا، وإنما توقف عند باب الوعي بالمشكلة. أما الحتمية القيمية في الإعلام فتوظف عدد من الأدوات المنهجية التي ولدتها النظريات الاجتماعية والاتصالية الحديثة في الغرب، فهي تسعى إلى التجديد في قراءة النصوص وربط ذلك بواقع الظاهرة الإعلامية القائمة في المنطقة العربية والإسلامية.
ثانيا/ أن تقليد الإعلام الإسلامي يكاد يقصي التجربة الغربية (الأكاديمية أو الممارسة في الميدان)، أما الحتمية القيمية فهي تتفاعل مع المعرفة الإعلامية الغربية بشقيها وتحاول أن تطرح نفسها بوصفها صوت آخر يتعايش وينافس النظريات القائمة؛ أي أنها تسعى إلى تجاوز صفة المحلية إلى إيجاد مكان لها في التراث المعرفي الأكاديمي السائد لدينا وفي الغرب.
ثالثا/ أما بالنسبة للتسمية ذاتها، فالاستخدام اللفظي المباشر في القول "الإعلام الإسلامي" قد يوحي أن الأمر:
أ-خطاب أكثر منه علم.
ب-أنه أمر محلي ديني بحت كالقول "الإعلام المسيحي" مثلا.
ج-انه أمر مطلق ليس فيه مجال كبير للجدل والنقاش.
أما تعبير "الحتمية القيمية في الإعلام" فتحل هذه المعضلة إلى حد كبير، لأنه يجعلها جزء من اللغة الأكاديمية العلمية، وهي ليست محلية إذ ترى أن القيمة هي المحرك في التطور الحضاري لأي مجتمع. يضاف إلى ذلك أن الاستخدام اللفظي غير المباشر في الإشارة إلى "القيمة" يترك بعض المجال للخطأ المحتمل الذي ينسب في هذه الحالة إلى النظرية وليس إلى مصدر النظرية.
رابعا/ أن تقليد "الإعلام الإسلامي" وبفعل التركيز على السرد النصي فحسب لم يحدث حالة من البحث العلمي التطبيقي المعتبر، ولعل نظرية الحتمية القيمية في الإعلام تدفع إلى هذا الاتجاه بالاستعانة بالأدوات المنهجية التي تطورت لظروف تاريخية في الغرب.

خاتمة:

إذن فالحتمية القيمة في الإعلام جمعت من الخصائص والركائز ما يشدّ عودها، ويجعلها ناضجة نظريا، ولكنها لازالت في حاجة إلى الكثير من الدراسات الأكاديمية الامبريقية التي تختبر افتراضاتها على الواقع، وهو المطلوب من الأكاديميين على مستوى الجامعات العربية والإسلامية الذين يجب عليهم أن يتخلصوا من بعض عقدهم النفسية التي يأتي على رأسها (مركب النقص، الانهزامية، الذاتية، وحتى الغيرة..)

تعليقات

  1. شكرا جزيلا للأستاذ فهذه القراءة جاءت بسيطة واضحة و ملمة بأهم أفكار نظرية الحتمية القيمية و قد استفدت كثيرا منها ، كما أعجبني الجزء المتعلق بالمقارنة بين الاعلام الاسلامي و نظرية الحتمية القيمية فبالمقارنة تتضح أكثر الصورة...شكرا جزيلا و جازاك الله خيرا أستاذي الكريم

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معايير الصدق والثبات في البحوث الكمية والكيفية

أ.د فضيل دليو جامعة قسنطينة3 مقدمة   من المعروف أن البحوث في العلوم الاجتماعية قد تصنف تبعا لمؤشر طبيعة البيانات المستخدمة إلى بحوث كمية وبحوث كيفية. تَستخدِم الأولى تقنيات كمية مباشرة وتلجأ إلى العد والقياس والإحصاء... أما البحوث الكيفية فهي غالبا ما تخلو من التكميم والقياس، ولا تستعمل التحاليل الإحصائية بل تعتمد على التحليل الكيفي وتركز على الفهم من خلال التفاعل مع الموضوع والظاهرة المدروسة.

أهم ثمانية كتب حول نظريات علوم الإعلام والاتصال

باديس لونيس كثرت في الآونة الأخيرة حركة التأليف في مجال علوم الإعلام والاتصال بتخصصاته المختلفة في المنطقة العربية، ولكن مع هذه الحركة والحركية يبقى مجال نظريات الإعلام والاتصال يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. ليس من ناحية الكم فقط ولكن من ناحية الكيف بشكل خاص. لأن ما يُنتج هنا وهناك صار مبتذلا بشكل واضح، بل إن الكثير من الذين استسهلوا هذا المجال لم يكلفوا أنفسهم عناء إضافة أي شيء جديد حتى ولو كان من باب تنويع المراجع أو من باب التحليل والنقد، ما يفتح الباب واسعا حول التساؤل عن جدوى التأليف مادام صاحبها يجتر ما هو موجود أصلا من دون إضافة؟ هذا فضلا عن الحديث عن السرقات العلمية الموصوفة وذلك موضوع آخر.

"جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها"، كتاب الدكتور قسايسية الجديد

تدعمت المكتبة العربية في الايام القليلة الماضية بإصدار جديد عن دار الورسم للدكتور الجزائري علي قسايسية، عضو هيئة التدريس بكلية العلوم السياسية والإعلام بجامعة الجزائر3. الكتاب جاء تحت عنوان: جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها (من المتفرجين الى المبحرين الافتراصيين).