التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الميديا وهذا الإنسان الشرير

باديس لونيس

انقسمت  التنظيرات الإعلامية الأولى (منذ النصف الثاني من القرن العشرين) حول علاقة انتشار العنف في المجتمع بوسائل الإعلام إلى تيارات عديدة أهمها؛ تيار ذهب إلى التأكيد على دور وسائل الإعلام في التحريض على ممارسة العنف وذلك بالتعلم والتقليد كما أثبتته تجارب باندورا مثلا، وتيار آخر على العكس من ذلك رأى أن الميديا تساعدنا على التنفيس والتطهر من المشاعر السلبية عن طريق المحاكاة بالتخيل، وهو ما يؤدي إلى الهدوء وتفريغ الميل إلى العدوانية والعنف كما توصلت إليه دراسات فيشباخ في القرن الماضي.
أما غربنر فقد ذهب في ذلك مذهبا طريفا إذ رأى أن وسائل الإعلام، (ومنها التلفزيون بشكل خاص) قد تقمصت دور الآباء من جهة والكهنة من جهة أخرى؛ الآباء الذين كانوا يسيطرون على أبنائهم عن طريق الحكايات والقصص الخرافية المخيفة، والكهنة الذين يروون أساطير غيبية غامضة للسيطرة والتسلط على المجتمعات القديمة بواسطة التخويف.. أي أنها (أي وسائل الإعلام) لا تفعل شيئا إلا نقل الخوف بغية السيطرة؛ فهي حسب هذه النظرية تقوم "بغرس" صور العنف داخل معتقدات وأفكار المتلقين، هذه الصور تأخذ وقتها في النمو والتحول ببطء ولكن بعمق إلى معتقدات جديدة، يساعدها في ذلك تراكم التعرض للمشاهد العنيفة، ما يثمر في الأخير سلوكات (تلفزية) عنيفة.
ربما تكون الأفكار السابقة كلها صحيحة في سياقات معينة ولدى فئات معينة، ولكني مع السياق التاريخي والثقافي الذي نعيشه الآن أجدني أميل إلى رأي آخر، هو رأي جوزيف كلابر الذي لا يعتقد بوجود تأثير مباشر للميديا إلا على الأشخاص أصحاب الميولات العدوانية أساسا فتدعمها، وليس من مهمتها تغيير ما هو موجود وقائم أصلا.
والموجود القائم حاليا: حروب وقتل وتعذيب وتشريد في كل مكان، فكيف نلوم هذه الميديا حين تعج برامج الفضائيات بالعنف، وتمتلئ الأفلام السينمائية بمشاهد الأكشن، وصفحات الجرائد والمواقع الالكترونية بصور القتل وأخبار الحروب؟ ونحن الذين لا نكف عن مطالبتها بنقل الواقع وأحداثه كما هي؟
إذا كان هناك من يستحق أن نوجه إليه أصابع الاتهام فهو الإنسان؛ كيانا ومفهوما.
ألم يكف منذ قابيل عن البطش والقتل وزرع الرعب وإشعال فتيل الحروب قصد السيطرة وإشباع رغبته في التسلط متى وجد إلى ذلك سبيلا؟ فهو وبحجة إخضاع الطبيعة له ورغباته التي لا تنتهي وجشعه الذي لا تحده حدود، تنصّل من إنسانيته التي ميزه بها الله عن باقي المخلوقات، بل وذهب ابعد من ذلك حين وصلت به غطرسته إلى الإعلان عن نهاية فكرة الله على قول نتشه.

هذا الإله الذي قال في قرآنه الكريم: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون).

نشر المقال يوم الاحد 20 سبتمبر 2015م بجريدة الأوراس نيوز


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معايير الصدق والثبات في البحوث الكمية والكيفية

أ.د فضيل دليو جامعة قسنطينة3 مقدمة   من المعروف أن البحوث في العلوم الاجتماعية قد تصنف تبعا لمؤشر طبيعة البيانات المستخدمة إلى بحوث كمية وبحوث كيفية. تَستخدِم الأولى تقنيات كمية مباشرة وتلجأ إلى العد والقياس والإحصاء... أما البحوث الكيفية فهي غالبا ما تخلو من التكميم والقياس، ولا تستعمل التحاليل الإحصائية بل تعتمد على التحليل الكيفي وتركز على الفهم من خلال التفاعل مع الموضوع والظاهرة المدروسة.

أهم ثمانية كتب حول نظريات علوم الإعلام والاتصال

باديس لونيس كثرت في الآونة الأخيرة حركة التأليف في مجال علوم الإعلام والاتصال بتخصصاته المختلفة في المنطقة العربية، ولكن مع هذه الحركة والحركية يبقى مجال نظريات الإعلام والاتصال يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. ليس من ناحية الكم فقط ولكن من ناحية الكيف بشكل خاص. لأن ما يُنتج هنا وهناك صار مبتذلا بشكل واضح، بل إن الكثير من الذين استسهلوا هذا المجال لم يكلفوا أنفسهم عناء إضافة أي شيء جديد حتى ولو كان من باب تنويع المراجع أو من باب التحليل والنقد، ما يفتح الباب واسعا حول التساؤل عن جدوى التأليف مادام صاحبها يجتر ما هو موجود أصلا من دون إضافة؟ هذا فضلا عن الحديث عن السرقات العلمية الموصوفة وذلك موضوع آخر.

"جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها"، كتاب الدكتور قسايسية الجديد

تدعمت المكتبة العربية في الايام القليلة الماضية بإصدار جديد عن دار الورسم للدكتور الجزائري علي قسايسية، عضو هيئة التدريس بكلية العلوم السياسية والإعلام بجامعة الجزائر3. الكتاب جاء تحت عنوان: جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها (من المتفرجين الى المبحرين الافتراصيين).