التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أزمة البحث العلمي في الجامعة الجزائرية أزمة أخلاقية لا واعية وغير مقصودة

صابر بقور
أستاذ  أخلاقيات مهنة الصِحافة
قسم علوم الإعلام و الاتصال /جامعة باتنة


قال تعالى:﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [ سورة التوبة: 105 ]
وقوفا عند النقاش الذي طرحته مدونة عن كثب، تحت إشراف أستاذي المحترم باديس لونيس و بعد الحوار الذي أجراه مع البروفيسور القدير لعربي فرحاتي بخصوص وضعية البحث العلمي في الجامعة الجزائرية، و ليس  عبثا و لا مفاخرة أن أذكر المقياس الذي أشرف على تدريسه لأن المدخل الذي سأتبناه في تحليلي للموضوع سيكون قيميا أخلاقيا صرفا.

إن المتأمل لحال جامعة الجزائرية كمؤسسة علمية تشتغل ضمن سياق اجتماعي، اقتصادي، سياسي  و ثقافي، يلمح المساعي الجادة للوزارة الوصية (وزارة التعليم العالي و البحث العلمي) لتطوير وظائفها و أدوارها و ذلك من خلال توفير الظروف المادية و المعنوية، التنظيمية و البيداغوجية لجمهور الجامعة من أساتذة (افترض فيهم صفة الباحثين) و طلبة (أفترض فيهم صفة طلبة البحث العلمي) من بين هذه الظروف هو حصول الأستاذ الجامعي على راتب محترم و امتيازات أخرى تربصات، منح....(مقارنة بالوظائف الأخرى في البلاد) و حصول الطالب على منحة (مقارنة بالجامعات الخاصة التي تفرض رسوما باهظة للدراسة و تحصيل العلم خارج الجزائر) لكن المعضلة أن الجامعة التي توفر هذه الامتيازات المقتصة من خزينة الدولة (أفترض أنها خزينة الشعب) و لا تلزم الأستاذ بالتدريس أكثر من (9ساعات أسبوعيا) لأنها تفترض فيه صفة الباحث الذي يحتاج إلى التفرغ و الزمن لإنتاج مادة علمية جديدة في مجال تخصصه كأن يُنظِّر و يَخترع و يفكك حاجات مجتمعه و يحلل مشاكله ليفسرها و يُموضعها في سياقها ثم يجد (و لا أقول يقترح و لا يوصي على طريقة توصيات البحوث العلمية الرومانسية و المؤتمرات التي تُبرمج أو حتى المحاضرات المقدمة للطلبة) ثم ماذا نجد بعد هذا؟.. محاضرات منقولة من منتديات و بلوغات النت(لا أعمم هنا بل أُمثل و أجسد واقعا عشته كطالب جامعي قبل أن أكون أستاذا) لا تحوي أي جهد علمي أو معرفي، بل تدميرا للذات و المجتمع ( على طريقة  البروفيسور عزي عبد الرحمن)  و استهتار بعقل الطالب لأن المدخل الأخلاقي يقول أنه لا يجب أن نرى أن الطالب الجامعي قاصر (الافتراض الأفلاطوني في النظرية السلطوية و المعرفة سلطة كما نعلم)  أو غير قادر على تحليل و تفكيك ما يقدمه الأستاذ، و من ناحية أخرى لو أَلزمَنا الافتراض السياقي بأن الطلبة مستهترين و غير جادين فإن وظيفة الأستاذ الأولى هي البحث على الميكانيزمات النفسو-معرفية لإثارتهم وجدانيا و معرفيا.
الحقيقة لا أفهم كيف لأستاذ جامعي أن يعد محاضراته من منتدى على الانترنت على طريقة نسخ لصق ثم الإملاء و السكب القاتل على الطلبة الأمر الذي يؤدي إلى تخديرهم معرفيا و وظيفيا ثم تنطلق التهم المبتذلة: الطلبة لا يفهمون، الطلبة مستهترون، الطلبة نائمون ...هذا الشق الأول في التحليل أما بخصوص البحث العلمي و على الرغم من فتح الجامعة الجزائرية للمخابر و تنظيمها لملايين الملتقيات العلمية المحلية و الدولية، و استفادة الأساتذة من تربصات في الخارج (و هنا أذكر أن أستاذا جامعيا و زوجته استفادا من تربص في الخارج إلا أنهما برمجاه في وقت ولادة الزوجة لكي يكتسب رضيعهما جنسية البلد المستضيف!)  إلا أننا نجد المنتوج العلمي (كفعل ثقافي) ضحل قائم على النقل العشوائي و رسكلة الأفكار السابقة دون أي انتاج واضح و الدليل عدم قدرتها على تخريج نظريات و براديغمات جديدة تليق بالسياق المحلي و تحطم الرؤية النسقية الغربية للظاهرة الاجتماعية المحلية (أتحدث هنا عن العلوم الانسانية و الاجتماعية لأن العلوم التقنية في حاجة إلى اختراعات مادية ملموسة تدخل في إطار البحث العلمي التطبيقي).
و تتوالى الفضائح الأكاديمية في كل مرة نسمع فيها عن رسالة دكتوراه مسروقة، مقال علمي مسروق محاضرة مسروقة من الويب، ورقة علمية  مسروقة لتقدم في مؤتمر،مما ينزح بي للاعتقاد قطعا أن أزمة البحث العلمي في الجامعة الجزائرية أزمة أخلاقية و هنا يجب أن نفرق بين الأخلاق الواعية و الأخلاق غير الواعية، فغرق ظاهرة البحث العلمي في هذا الانهيار القيمي الذي حوله إلى شبكة غير واعية بما تفعل على مستوى الخيط الخطابي المرتبط بالممارسات الأكاديمية للأساتذة و الباحثين الجامعيين رغم وفرة الظروف المادية و اللوجيستيكية لتقديم الأفضل يضعنا أمام إشكالية سياقية مركبة و معقدة تحتاج إلى حل.
إن هذا العجز و الخلل الوظيفي  و الرومانسية الأكاديمية الحالمة التي حولت البحث العلمي إلى موائد طعام فاخرة في الملتقيات، و تصرفات سياحية مبتذلة و أغراض أخرى في التربصات و لهث خلف التأهيل و الدرجة العلمية في المقالات و المجلات العلمية المحكمة لدرجة أن طلبة الدكتوراه يعتصمون و ينظمون جلسات (sit-in) أمام الوزارة الوصية و رئاسات الجامعات بدعوى رفع شرط نشر المقال العلمي للحصول على الدكتوراه يعبر عن خدر معرفي و أخلاقي غير مسبوق، كيف لباحث أو مشروع باحث أن يطالب بأمر كهذا و الذي يعتبر العمود الفقري لهويته الأكاديمية، فطلبه هذا يجعله يقول بطريقة أخرى ارفعوا شرط أن أكون باحثا أريد أن أكون دكتورا فقط !
إن هذا التفكك القيمي غير الواعي في بنية البحث العلمي في الجامعة الجزائرية حول الأمر إلى عقدة نفسية جماعية أو اللاشعور الجمعي لـ:"ستيفزر" في مقابل الضمير الجمعي لـ:" دوركايم"  أو الواجب الأخلاقي لـ:" ايمانويل كانط"، هذه العقدة النفسية الجماعية/الجامعية التي تحولت إلى عاصفة غير موجهة ضد أي إبداع أو تميز أكاديمي كأن يتحول أي نقاش أكاديمي إلى حلبة صراع منفلت أخلاقيا، أو أن يقابل أي جهد أكاديمي بالصد ، الرفض لا بل محاولة التدمير و الإثباط و الأمر معروف عندنا في عرف تخصص الإعلام و الاتصال عندما اجتهد بروفيسور جزائري  و فريقه في إصدار أول نظرية عربية إسلامية في علوم الإعلام و الاتصال، و هنا يطرح إشكال الفعالية و الفاعلية و الايجابية المنتظرة من الباحث و الأستاذ الجامعي و هو الإشكال الذي طرحه محمد الغزالي في كتابه الإسلام و الطاقات المعطلة (مشكل الفاعلية المنتظرة من المسلم كفعل أخلاقي يتعلق بكل تصرفاته و أعماله و نسقطها هنا على وظيفة الأستاذ الجامعي في البحث العلمي)، فإن هذا الارتكاس العلمي، الانتكاس الأخلاقي، التنكيس لراية المسؤولية ، التكاسل الحضاري ، التهاون الاجتماعي و التقاعد الافتراضي قبل أوانه من شأنه أن يعطل مؤسسة البحث العلمي و يعمق انفصالها الأيديولوجي غير المبرر حيال مشاكل المجتمع و عدم قدرتها على التغيير الاجتماعي  و تحقيق الانتقال الحضاري الواعي و اللازم.
و حتى لا أقع في فخ النقدية الرومانسية و يتحول كلامي إلى لغو سافر و ظاهرة صوتية كاريكاتورية يرى فيها البعض إبراز لعضلات لغوية و كفى أعتقد أن الحل النسبي فيما قلت يتمثل في الآتي:
1.تأسيس الوزارة الوصية لهيئة رقابية تقف على جودة البحث العلمي في مؤسسة الجامعة الجزائرية .
2.تأسيس الأساتذة الجامعيين بقيادة الإدارة (في كل تخصص و حسب وعيهم و استشعارهم للأزمة) للجان استشارية مستقلة وظيفيا (نسبيا) على طريقة إرساء نظام الشورى الإسلامي في معالجة الأزمة  تقف على مستوى جودة البحث العلمي في كل تخصص من رسائل تخرج الطلبة (ليسانس، ماستر و دكتوراه) و كذا الدراسات المقدمة في الملتقيات و الأيام الدراسة  إضافة إلى مراقبة المقالات العلمية التي تنشر في المجلات و حتى المحاضرات المقدمة للطلبة و فضح أي سرقة علمية بالتبليغ عنها للوزارة الوصية ،أجهزة الإعلام الكلاسيكية و مواقع التواصل الاجتماعية في شكل تقارير و بيانات صحفية مستمرة، لتكريس مبدأ شفافية البحث العلمي و المواجهة الأخلاقية الواعية للسرقات العلمية و التكاسل المعرفي اللاأخلاقي و اللاحضاري.
3. خلق القدوة العلمية و ذلك بتنظيم تظاهرات تكريمية دائمة لكل أستاذ أو باحث يأتي بالجديد في تخصصه كتكريم المنظرين و المخترعين و أصحاب أحسن المقالات و البحوث العلمية المنشورة على الصعيد العالمي.  
4. تأسيس قاعدة بيانات وطنية افتراضية على الانترنت تسجل فيها كل المحاضرات، البحوث، المقالات في كل التخصصات ليسهل منتابعة المنتوج العلمي الجاد و الضحل و كذا تسهيل عملية التبليغ على السرقات الفكرية و العلمية.
5. تنسيق الجهود وطنيا في شكل جمعيات وطنية يؤسسها أساتذة و باحثون، تدافع أخلاقيا على البحث العلمي و على مؤسسة الجامعة الجزائرية لتكون كهيئة مجتمع مدني رادعة لكل الممارسات التي هوت بصيرورة البحث العلمي في الجزائر.
و ختاما لا أدعي أني أملك الحقيقة لأنها متعددة و لا الحق لأن الحق من الله و المولى عز و جل و لكن هذه الأسطر فكرة بشرية قد يعتريها النقص و قد يراها الكثر خاطئة او صائبة ...لكني استفتيت قلبي في قولها و الله على ما أقول شهيد..
اللهم أظهر الحق و السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معايير الصدق والثبات في البحوث الكمية والكيفية

أ.د فضيل دليو جامعة قسنطينة3 مقدمة   من المعروف أن البحوث في العلوم الاجتماعية قد تصنف تبعا لمؤشر طبيعة البيانات المستخدمة إلى بحوث كمية وبحوث كيفية. تَستخدِم الأولى تقنيات كمية مباشرة وتلجأ إلى العد والقياس والإحصاء... أما البحوث الكيفية فهي غالبا ما تخلو من التكميم والقياس، ولا تستعمل التحاليل الإحصائية بل تعتمد على التحليل الكيفي وتركز على الفهم من خلال التفاعل مع الموضوع والظاهرة المدروسة.

أهم ثمانية كتب حول نظريات علوم الإعلام والاتصال

باديس لونيس كثرت في الآونة الأخيرة حركة التأليف في مجال علوم الإعلام والاتصال بتخصصاته المختلفة في المنطقة العربية، ولكن مع هذه الحركة والحركية يبقى مجال نظريات الإعلام والاتصال يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. ليس من ناحية الكم فقط ولكن من ناحية الكيف بشكل خاص. لأن ما يُنتج هنا وهناك صار مبتذلا بشكل واضح، بل إن الكثير من الذين استسهلوا هذا المجال لم يكلفوا أنفسهم عناء إضافة أي شيء جديد حتى ولو كان من باب تنويع المراجع أو من باب التحليل والنقد، ما يفتح الباب واسعا حول التساؤل عن جدوى التأليف مادام صاحبها يجتر ما هو موجود أصلا من دون إضافة؟ هذا فضلا عن الحديث عن السرقات العلمية الموصوفة وذلك موضوع آخر.

"جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها"، كتاب الدكتور قسايسية الجديد

تدعمت المكتبة العربية في الايام القليلة الماضية بإصدار جديد عن دار الورسم للدكتور الجزائري علي قسايسية، عضو هيئة التدريس بكلية العلوم السياسية والإعلام بجامعة الجزائر3. الكتاب جاء تحت عنوان: جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها (من المتفرجين الى المبحرين الافتراصيين).