التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الانتقام من الفرنسية بالإنجليزية أو كيف نمحو ذكاء اللغة بغباء الأنفة

د. محمد شوقي الزين
تقول السيّدة باربارا كاسان (Barbara Cassin)، أستاذة ومترجمة ومشرفة على القاموس الأوروبي للفلسفات (vocabulaire européen des philosophies): »فإن عدوَّنا هو "الكل-بالانجليزية (tout-à-l’anglais)"؛ الإنجليزية التي لم تعُد لساناً، المنقطعة كليةً عن أصحابها وعن أعمالها، مجرَّد لغة في التداوُل العالمي، شيء من قبيل اللغة الشائعة(koinè) التي لا نستغني عنها بلا شك في كل تواصُل، لكنها ليست في شيء لغة الثقافة. إنها مجرَّد أداة سهلة في التواصُل العالمي، تنطوي على العديد من المفاعيل الفاسدة. تكمن الخطورة في ألا تكون هنالك لغة أخرى غيرها، شيءٌ من قبيل الأنجلوكوكبية (Globish) المعولمة، ولهجات نتحدث بها في المنزل، تتطلب الاحتفاظ بوصفها أصنافاً مهدَّدةً بالانقراض: الفرنسية، الألمانية، الإسبانية، إلخ» (في حوار مع كوليت بريفار أقوم بترجمة الحوار لصالح مجلة عربية).

لا يكفي أن نغيّر كلمات وزاراتنا أو جامعاتنا من الفرنسية إلى الإنجليزية لكي نغيّر النواة الصلبة للذهنيات. التغيير في القشور وعلى السطوح لا يمس في شيء التغيير في الألباب. في هذه الحالة، ينبغي إقناع الملايين بأن يقيموا طوابير طلب التأشيرة من السفارة الفرنسية إلى السفارة الأمريكية أو البريطانية، وأن يذهبوا إلى لندن بدلاً من باريس؛ وأن نقنع الملايين بالدارجة الذين يقولون: "مدلي كونيفتير" (passe-moi la confiture s’il te plaît) (ناولني المربَّى من فضلك) إلى: "مدلي دجام" (give me jam please). لا نمحو بسهولة العادات اللغوية المترسخة خلال عقود أو قرون، وليس تبديل كلمات بكلمات من شأنه أن يساهم في هذا المحو. لننتقل إلى المفعول السياسي أو الإيديولوجي: ما الغرض من إرادة محو الفرنسية من أجل الإنجليزية؟ 
1-  يقول بعضهم، الإنجليزية لغة العلم. اذهبوا إلى أي مدرسة أو ثانوية، مثلاً في ألمانيا، في الثانوية (Gymnasium)، العلوم تُدرَّس بالألمانية وليس بالإنجليزية. الإنتاج العلمي بالإنجليزية لا يُقصي الشروحات والتفسيرات باللغات-الأم. 
2-  يقول بعضهم: الفرنسية لغة دولة استعمارية، وكأنَّ بريطانيا لم تكن أبداً امبراطورية في توسُّعها الاستعماري التاريخي. أو أيضاً: وكأن الولايات المتحدة لم تكن أبداً حليف إسرائيل، ظالمةً أو مظلومةً، ولم تساهم أبداً في تفكيك بعض دول الشرق الأوسط! البقاء في هذه "الجوهرانية الضيّقة" (essentialisme) في عزل اللغة عن منظوماتها التاريخية والسياسية، شيء مقرف. اللغة عقل وكينونة، نجد لها مكاناً إلى جانب لغات عديدة ولا نسعى لمحوها بمجرَّد أنفة في غير محلها أو بسبب حقد وضغينة. 
3- يقول بعضهم: الفرنسية لغة أدبية، وكأن الأدب أو الآداب لا تساهم في تكوين ذائقة الناطق بها ولا تزرع في ذاته شيء من الرؤية الجمالية للعالم. ربما كان جون جاك روسو في جوابه على سؤال أكاديمية ديجون (1750): «هل تساهم العلوم والفنون في رهافة العقول وتطييب الأخلاق أم في إفسادها؟»، أكثر إقناعاً في تبيان أن النظرة التقديسية للعلوم البحتة هو الطريق الخاطئ الذي سلكته الأنوار المنتصرة في زمانه، لأن نتائج هذه النظرة التقديسية كانت مروّعة بانتصار التقنية التي حوَّلت العقل المتدبّر/المدبّر إلى العقل الآلي/الحسابي، أو الذي سمّيته في محاولة قيد الكتابة "العقل المتركّز" في مقابل "العقل المتمركز". 
ليس العلم كل شيء، وليست الإنجليزية اللغة الواحدة والوحيدة. التفكير بمنطق الأحادية، هو تفكير شمولي، دكتاتوري، ضيّق، جلِف. الرهان أن نفكر بالجمع وبالتنوَّع، أن نفكّر بالمنطق الرواقي الذي أحبّذه، في كون كل لسان له مكان ومكانة، له دور يؤديه في مجموع البشرية التي ينتمي إليها، على سبيل التواصُل والتعارُف، واكتشاف في الآخر ما نفتقده في الذات؛ مثلما أن الآخر يكتشف في لساننا ما يفتقده في لغته ومجاله التداولي. اللحظة البابلية (الأسطورية في اللاوعي البشري) لا تزال سارية المفعول، ولا يمكن لأي لسان، مهما كان قوياً وذائعاً، أن يوحّد البشر على مستوى الذهن والروح. لا ينبغي أن نخلط بين الآلة (مجرد وسيلة في التواصُل) وبين محتوى التعبير الذي يتحدَّد في إطار أنثروبولوجي ورؤية معيَّنة للعالم (Weltanschauung). الإنجليزية، مثلها مثل أي لسان، وسيلة أو أداة ولا ترتقي إلى لحظة ما قبل بابل، اللحظة الجامعة والكونية. لربما هي اليوم قويَّة بقوَّة الإمبراطورية(l’Empire)   الحاملة لها. لكن، ماذا عن غد؟
مراجع النص: 
Entretien avec Barbara Cassin, réalisé par Colette Briffard, revue «Texto ! », Juin 2006.

Barbara Cassin (éd.), Vocabulaire européen des philosophies, dictionnaire des intraduisibles, Paris, Seuil/Le Robert, 2004.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معايير الصدق والثبات في البحوث الكمية والكيفية

أ.د فضيل دليو جامعة قسنطينة3 مقدمة   من المعروف أن البحوث في العلوم الاجتماعية قد تصنف تبعا لمؤشر طبيعة البيانات المستخدمة إلى بحوث كمية وبحوث كيفية. تَستخدِم الأولى تقنيات كمية مباشرة وتلجأ إلى العد والقياس والإحصاء... أما البحوث الكيفية فهي غالبا ما تخلو من التكميم والقياس، ولا تستعمل التحاليل الإحصائية بل تعتمد على التحليل الكيفي وتركز على الفهم من خلال التفاعل مع الموضوع والظاهرة المدروسة.

أهم ثمانية كتب حول نظريات علوم الإعلام والاتصال

باديس لونيس كثرت في الآونة الأخيرة حركة التأليف في مجال علوم الإعلام والاتصال بتخصصاته المختلفة في المنطقة العربية، ولكن مع هذه الحركة والحركية يبقى مجال نظريات الإعلام والاتصال يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. ليس من ناحية الكم فقط ولكن من ناحية الكيف بشكل خاص. لأن ما يُنتج هنا وهناك صار مبتذلا بشكل واضح، بل إن الكثير من الذين استسهلوا هذا المجال لم يكلفوا أنفسهم عناء إضافة أي شيء جديد حتى ولو كان من باب تنويع المراجع أو من باب التحليل والنقد، ما يفتح الباب واسعا حول التساؤل عن جدوى التأليف مادام صاحبها يجتر ما هو موجود أصلا من دون إضافة؟ هذا فضلا عن الحديث عن السرقات العلمية الموصوفة وذلك موضوع آخر.

"جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها"، كتاب الدكتور قسايسية الجديد

تدعمت المكتبة العربية في الايام القليلة الماضية بإصدار جديد عن دار الورسم للدكتور الجزائري علي قسايسية، عضو هيئة التدريس بكلية العلوم السياسية والإعلام بجامعة الجزائر3. الكتاب جاء تحت عنوان: جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها (من المتفرجين الى المبحرين الافتراصيين).