التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تطور المجتمع المدني : القصة غير الكاملة لصعود و تراجع النقابات العمالية

بقلم / الأستاذ الدكتور إدريس بولكعيبات
هل نحن حقا في عصر المجتمع المدني ؟ عرفت النقابات العمالية التي تشكل شريحة هامة من المجتمع المدني ، صعودا متواصلا منذ القرن التاسع عشر الى غاية السبعينيات من القرن الماضي ثم بدأت تتخلى عن الحماسة في العمل لتدخل في لعبة المجتمع السياسي الذي نجح في تدجينها و تليين مواقفها الى أن باتت جزءا منه . فهل ذلك نضج و واقعية أم خيانة لمبادئ أقسمت على السير عليها الى النهاية ؟ 
النقابة تنظيم عمالي نشأ على أنقاض الطوائف الحرفية التي تفككت مع رياح التغيير التي صاحبت قيام الثورة الصناعية في أوروبا الغربية ، مهدها الأول . وكان من نتائجها الأولى حدوث تغيير نوعي في علاقات العمل ، تكرس بفضل انتصار الطبقة البرجوازية الصاعدة و زوال الإقطاع .
و الحديث عن تطور مفهوم النقابة العمالية يجرنا بالضرورة إلى تسليط الضوء على الظروف المصاحبة التي أحدثت تغييرات عميقة في بنية المجتمع الغربي. فقد أدى الاستعمال الواسع النطاق للآلة إلى تطوير المشاغل القديمة وظهور مؤسسات كبيرة تتميز بغزارة الإنتاج بفضل تقسيم العمل وتحليله إلى حركات بسيطة سهلة الأداء لا تحتاج إلى مهارة مهنية ، على عكس ما كان يتطلبه العمل في الورش القديمة التي كان يعمل بها أصحاب المهن والمعلمون. 
هؤلاء كانوا يتمتعون بمكانة خاصة نتيجة المهارات التي اكتسبوها وضعف انتشارها بين الناس ؛ حيث كانت من الأسرار التي يعملون على اخفائها.
غير أن غزارة الإنتاج التي ميزت الآلة كرست انتصارها النهائي وانتصار منطق الطبقة الجديدة المسيطرة – البرجوازية – المبني على تحقيق أكبر ربح ممكن. وفي مثل تلك الظروف ، كما يقول " و. أباندروف W.Abendroth " ، " كان لا يمكن تفادي أن يقود انتصار النزعة الآلية إلى مضاعفة وقت العمل وتكثيف العمل نفسه " .(1)
ولم يحطم ادخال الآلة مهارة العمال فحسب ، بل ضاعف استغلالهم من طرف أرباب العمل أيضا. وقد أدى الأسلوب الجديد في العمل إلى خلق تخمة في سوق اليد العاملة ، وتدهورت الأجور من جراء ذلك واستولى على العمال الشعور بعدم الاستقرار بعد أن خضع كل شيء لقانون العرض والطلب . وكان من الطبيعي أن يقوم العمال بردود فعل لمواجهة هذا الوضع المتجه نحو التدهور ، والحد من جشع أرباب العمل الذين بهرتهم الحرية الاقتصادية والأرباح التي يحصلون عليها . إلا أنه لم تتخذ ردود الفعل الأولى للعمال شكلا منظما أو إيجابيا لوقف التدهور في ظروف معيشتهم . وقد ذهب " فريد ريك أنجلز F. Engels " الذي عاش في تلك المرحلة إلى القول بتطور ردود الفعل عند العمال في تصديهم لظروف العمل عبر مرحلتين: (2)
1- مرحلة الجريمة : وهي مرحلة متقدمة تتميز بانتشار الجريمة ، وكانت تأخذ شكل العمليات الانتقامية ، يقوم بها العمال بصورة فردية نتيجة للأوضاع التي كانوا يعانون منها، مثل السرقة التي كانت تنتشر بين العمال في تلك المرحلة.
2- مرحلة التنظيم: بعد أن اتضح للعمال أن الأساليب السابقة غير مجدية وأنها لا تقودهم إلى تحقيق تحسن فعلي في أوضاعهم ، عمدوا إلى تغيير أسلوب مواجهة أرباب العمل ، فاستخدموا العنف من أجل وضع حد لانتشار النزعة الآلية التي بدأت تهددهم بصورة مباشرة بفقدان أماكن العمل والاستغناء عن خدماتهم و احلال الآلة محلهم.
إلا أن وعي الطبقة العاملة وإدراكها للأسباب الحقيقية للتدهور الذي آلت إليه حالتها هو الذي دفعها إلى البحث عن أساليب فعالة لتحقيق الحاجات المفقودة . و كان " ماركس K. Marx (3) يرى أن هذا التغير في أسلوب الدفاع عن المصالح من جانب العمال ، يعود إلى كون الطبقة العاملة انتقلت من " طبقة في ذاتها Classe En Soi " أي طبقة سلبية وليدة ظروف الإنتاج الرأسمالي ، لم تتقبل وضعها و ما هي عليه– إلى " طبقة لذاتها Classe Pour Soi " ،أي طبقة فاعلة مدركة لموقعها في المجتمع ، وقادرة على تغيير التاريخ لصالحها.
ويعتبر تشكيل العمال للنقابات وعيا بضرورة العمل الجماعي المنظم في الدفاع عن مصالح الطبقة . و كان قائد الثورة البلشفية ، يذهب إلى أعمق من ذلك و يقول " أن النقابات هي التنظيم التاريخي الذي لا يمكن تجنبه. (4)
و تعود هذه الضرورة إلى كون العمال يجدون أنفسهم في وضعية غير متكافئة مع رب العمل عندما يتفاوضون معه بصورة فردية حول بيع قوة عملهم والأجور التي يحصلون عليها مقابل ذلك . ويتطلب تدعيم موقعهم في التفاوض ضرورة التحالف والتكتل والعمل المنظم الذي يتجاوز مرحلة " الجريمة " ويحول العمال من طبقة تكتفي بتلقي التأثير من المحيط الاجتماعي ، إلى طبقة متماسكة مدركة لموقعها في المجتمع وقادرة على النشاط والتأثير.
بيد أن العمل المنظم لا يمارس بصورة مباشرة من طرف كل العمال لتعذر الأمر ، وإنما يمارس عن طريق ممثلين يجسدون مطامح العمال أثناء التفاوض مع رب العمل ، وكان ذلك بداية لظهور النقابات العمالية.
واتخذت النقابات شكل تنظيم قيادي يقوم بعملية التفاوض حول قيمة قوة العمل ، وفرضت عليها الظروف الموضوعية في ظل البنية الاجتماعية الرأسمالية أن تتحمل مسؤولية الدفاع عن مستوى الأجور والحد من انخفاضها دون قيمة قوة العمل والتقليص من قوة التنافس بين العمال في سوق العمل التي أخذت في الاتساع مع انتشار استعمال الآلة.
وعلى اعتبار أن النقابات من حيث درجة تنظيمها وحجم مهامها تعكس مستوى تطور القوى العاملة ، فإن دورها في هذه المرحلة المتقدمة يقتصر على تحقيق هذه الجوانب . و كان ماركس يصف نقابات المرحلة المذكورة " بشركات الأمان التي شكلها العمال بأنفسهم " . (5)
و من الواضح أن هذه العبارة ليست تعريفا بالمعنى المألوف و المقبول ، إلا أنها بشكل عام تشير إلى الدور الذي قامت به النقابات العمالية في المجتمعات الرأسمالية في مرحلتها المتقدمة ، أي مع بداية انتشار الآلة.
وقد تغير هذا المضمون إلى حد ما مع انتقال الرأسمالية إلى مرحلتها العليا المتميزة بشكل خاص بتطور وسائل الإنتاج وأتمتة العمل وتقنيته وتشريحه إلى أبسط الأجزاء المكونة له وفق التايلورية Taylorisme التي أدخلت مفهوم التنظيم العلمي للعمل لتحقيق أكبر إنتاج ممكن وفي أقل وقت ممكن وبأقل تكلفة ممكنة من أجل مضاعفة الأرباح . ووفق فكرة الترشيد التي عرضها ماركس فيبر M.Weber والقائمة على التوزيع الدقيق للأدوار والتكوين والتعامل عن طريق الوثائق والترتيب الهرمي الصارم ، نجد أن إدخال الأساليب الجديدة في تنظيم العمل تبعا للتطور التكنولوجي ، أدى إلى انقسام الطبقة العاملة على نفسها ؛ حيث ظهرت ارستوقراطية عمالية تحمل أفكارا محافظة ، يطلق رايت ميلز W.Mills على هذه الفئة " عمال ذوي الياقات البيضاء ويضعهم في مقابل العمال الآخرين الذي أطلق عليهم " ذوي الياقات الزرقاء" .(6)
ولقد أدت التطورات الجديدة في بنية المجتمعات الرأسمالية إلى انحطاط الحركة العمالية وضعف الروابط بين النقابات و العمال . ولنأخذ النموذج الأمريكي باعتباره أكثر المجتمعات الرأسمالية تطورا . ففي هذا النموذج رفع شعار " عصر الامتيازات التعاقدية " l’ère des concessions contractuelles خلال الأزمة الاقتصادية الحادة التي مر بها العالم خلال الثمانينات من القرن العشرين . و قد كان هذا الطرح يطلق عليه ب" الريغانية " في امريكا و " التاتشرية " في بريطانيا .
و باختصار ، فإن هذه الفكرة تشير الى : 
1- تخفيض سرعة ارتفاع الأجور.
2- مرونة قواعد العمل في الورشة أو المكتب.
3- زيادة مشاركة العمال في اتخاذ القرار.
وفي المقابل يقدم العمال بعض التضحيات في المجالين الاقتصادي والاجتماعي.
ويتضمن هذا الشعار محاولة لخلق بدائل عن الحاجات المادية للعمال وتعويضها بحاجات سيكولوجية واجتماعية من أجل امتصاص الغضب و ايجاد شروط السلم الاجتماعي . و نتج عن توقف النقابة عن المطالبة بتحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية تدهور انتساب العمال للنقابات في الفترة ما بين 1970 و 1980 ؛ حيث انخفض عدد المنتسبين من 24.7 % إلى 20.9 % من القوى العاملة. ( 7 ) 
ويشير هذا التراجع إلى انحطاط النقابات في البلدان الرأسمالية بعد أن تحولت إلى " هيئة وسيطة " بين العمال وأرباب العمل أكثر مما هي ممثلة للعمال .
و في الدولة التي حلم بقيامها تروتسكي Trotsky و كان يطلق عليها الدولة العمالية L’Etat Ouvrier و التي لم تقم لها قائمة أبدا ، في أي جهة من العالم ، تخيل أن يكون دور النقابات ليس الدفاع عن المصالح المادية والمعنوية للطبقة العاملة (8) ، بل أن النقابات تصبح منظمات غير ضرورية و محكوم عليها بالزوال بسبب انتفاء الظروف التي وجدت من أجلها. هذا الطرح من جانب " تروتسكي " كان غير واقعي بل متعال عن الواقع . و بالفعل أكدت التطورات التي شهدتها دول أوروبا الشرقية خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين أن النقابات لعبت دورا محوريا في الاطاحة بنظم اشتراكية مثلما حدث في بولونيا .
كما أن النمط الذي تحدث عنه " تروتسكي " لم يتحقق في أي ناحية من المعمورة . ولذلك ، فإن دور النقابة يبقى قائما ولكن بمفهوم مختلف يستجيب لظروف المرحلة التي يسودها استمرار التناقضات في البنية الاجتماعية . وفي مقدمتها ضعف تكوين العمال وعدم بلوغهم الحد المطلوب الذي يضعهم في مستوى القيادة ، بالإضافة إلى استمرار الفوارق بين العمال والفلاحين و تخلي الدولة عن لعب دور المستثمر و سيطرة النمط الرأسمالي على الاقتصاد الذي أصبح النمط الوحيد الممكن . ( طالع كتاب فوكوياما : نهاية التاريخ و الانسان الأخير ) .
إن هذه العوامل تبقي للنقابات دورا مهما في تأمين اجتياز المرحلة الانتقالية في بلد كالجزائر. وتعود أهمية هذا الدور إلى قلة التشريعات و وجود قطاع خاص يسعى لتحقيق ربح سريع على حساب العمال . وعلى اعتبار أن النقابات توجد في موقع يؤهلها للإطلاع على مشاكل العمال ، فإنها تعد حلقة وصل وأداة للاتصال و اسماع الصوت إلى مؤسسات الدولة . و على اعتبار أنها من جهة أخرى قريبة من السلطة ومحتكة بها، فإنها تشكل " احتياطيا لها Reserve "(9) . و هذه هي حالة الاتحاد العام للعمال الجزائريين .
و هذا الدور لا يمنع النقابات من الاحتفاظ بدورها التقليدي المتمثل في الدفاع عن المصالح المادية والمعنوية للعمال، ومن جانب آخر فإن عملية التواصل مع مؤسسات السلطة التنفيذية تؤدي في كثير من الأحيان إلى انفصال النقابات عن العمال وعدم قدرتها على التعبير عن الأوضاع التي تعيشها الطبقة العاملة . و لذلك هناك احتمال قائم لتحول النقابات إلى جهاز بيروقراطي لا يعمل على التركيز على مطالب العمال ، ما يؤدي في بعض الأحيان إلى حدوث اضطرابات للتعبير عن التمرد والمطالبة بالتعبير عن الحاجات الحقيقية ، كما حدث في بولونيا عام 1980 ؛ حيث تشكلت نقابة " سودالنورسك " ، أي " التضامن" وهي نقابة موازية للنقابة الرسمية التي كانت تحظى بدعم الدولة ، حيث ظهرت كرد فعل على عجز النقابة الرسمية عن إشباع حاجات العمال والتعبير عن تطلعاتهم. (10)
وقد سعت الجزائر من خلال خوض تجربة اطلق عليها "التسيير الاشتراكي للمؤسسات " في سبعينيات القرن الماضي ، إلى إغراء النقابات بالمشاركة في اتخاذ القرار على مستوى المؤسسات ، كانت حيلة لمنعها من المطالبة بتحسين الأجور بشكل خاص . و قد اخفقت تلك التجربة التي لم تستمر أكثر من عقد كما أنها لم تمنع من اندلاع أحداث أكتوبر التي انطلقت من أحد مصانع الرويبة التابع للدولة و قد كانت تشبه ما وقع في بولونيا ؛ حيث خرجت الاضرابات عن سيطرة النقابة الرسمية .
و في رأيي أن البنية الاجتماعية للجزائر انتقالية تتميز باقتصاد مختلط يتعايش فيه القطاع العام مع القطاع الخاص ، فإن المفهوم المناسب لتناول الحركة النقابية بالدراسة يجب أن يعكس هذه الحالة الخاصة و هو: " تنظيم مدني يعبر عن تطلعات قاعدة من العمال و يسعى للدفاع عن مصالحهم المادية و لاسيما الأجور و ترقية التشريعات التي تحسن من ظروف العمل " .

ملاحظة : للمقال مراجع

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معايير الصدق والثبات في البحوث الكمية والكيفية

أ.د فضيل دليو جامعة قسنطينة3 مقدمة   من المعروف أن البحوث في العلوم الاجتماعية قد تصنف تبعا لمؤشر طبيعة البيانات المستخدمة إلى بحوث كمية وبحوث كيفية. تَستخدِم الأولى تقنيات كمية مباشرة وتلجأ إلى العد والقياس والإحصاء... أما البحوث الكيفية فهي غالبا ما تخلو من التكميم والقياس، ولا تستعمل التحاليل الإحصائية بل تعتمد على التحليل الكيفي وتركز على الفهم من خلال التفاعل مع الموضوع والظاهرة المدروسة.

أهم ثمانية كتب حول نظريات علوم الإعلام والاتصال

باديس لونيس كثرت في الآونة الأخيرة حركة التأليف في مجال علوم الإعلام والاتصال بتخصصاته المختلفة في المنطقة العربية، ولكن مع هذه الحركة والحركية يبقى مجال نظريات الإعلام والاتصال يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. ليس من ناحية الكم فقط ولكن من ناحية الكيف بشكل خاص. لأن ما يُنتج هنا وهناك صار مبتذلا بشكل واضح، بل إن الكثير من الذين استسهلوا هذا المجال لم يكلفوا أنفسهم عناء إضافة أي شيء جديد حتى ولو كان من باب تنويع المراجع أو من باب التحليل والنقد، ما يفتح الباب واسعا حول التساؤل عن جدوى التأليف مادام صاحبها يجتر ما هو موجود أصلا من دون إضافة؟ هذا فضلا عن الحديث عن السرقات العلمية الموصوفة وذلك موضوع آخر.

"جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها"، كتاب الدكتور قسايسية الجديد

تدعمت المكتبة العربية في الايام القليلة الماضية بإصدار جديد عن دار الورسم للدكتور الجزائري علي قسايسية، عضو هيئة التدريس بكلية العلوم السياسية والإعلام بجامعة الجزائر3. الكتاب جاء تحت عنوان: جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها (من المتفرجين الى المبحرين الافتراصيين).