التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الطرق الصوفية في مواجهة الإرهاب


البروفسور رابح لونيسي

أعيد طرح مسألة الطرق الصوفية في الجزائر بعد الإبراز المشبوه والمضخم والكاريكاتوري للطريقة الكركارية التي تنحدر أصلا من الطريقة العليوية، وتختلف عنها فقط بتلك الألوان التي عددها 12لونا، وهي ترمز لعدد حروف "لا إله إلا الله"، ويستهدف هذا الإبراز والتضخيم الإعلامي لهذه الطريقة تلهية الجزائريين بنقاشات عقيمة بدل الإهتمام بقضاياه الجوهرية التي تمسهم، ومنها الإستغلال والإستبداد، وكذلك بمستقبل الجزائر الذي يرسم في غياب هذا المواطن بسبب إلهائه بهذه الأمور الهامشية وإبعاده عمدا عن الإنخراط في العمل السياسي والإهتمام بشؤون وطنه، ويتم ذلك كله -حسب ما يبدو- على حساب المواطن البسيط الذي تنهب ثرواته بشكل فاضح اليوم بعد إستيلاء الأوليغارشية المالية على دواليب الدولة، كما أستغلت التيارات الأيديولوجية الإسلاموية ذلك للتموقع أكثر في المجتمعن فهي متحالفة ضمنيا مع الإستبداد والإستغلال، كما أنها مصدر أغلب نقاشات التلهية للمجتمع وإبعاده عن النقاشات الجوهرية التي أشرنا إليها آنفا. 

لعل سيستغرب البعض في مقالتنا هذه دفاعنا عن الطرق الصوفية والزوايا في الجزائر، لأن البعض يعتقدون أن كل داعية للحداثة والديمقراطية، لا يولي للدين أهمية، وهو ليس صحيح، فبالعكس، فالدين يجب تحريره من الإستغلال السياسوي والسلطوي، فكلما أختلط الدين بالسياسة تحول إلى فتنة، ولهذا يجب الحفاظ على دوره التربوي والروحي فقط، وهي مهمة الزوايا والطرق الصوفية في بلادنا المغاربية، لكن شريطة تحديثها لتلائم العصر ونزع كل ما ألصق بها من شوائب وإنحرافات.لو نعود للزوايا في الجزائر نجد أنها هي التي حافظت في العهد العثماني على تنفيذ مهمتين أساسيتين أقرهما الإسلام، وهما معرفة القراءة وإغاثة المسكين والمحتاج اللذان هما أمران قرآنيين، ولهذا قال الفرنسي دوتوكفيل أن أغلب الجزائريين كانوا يعرفون القراءة والكتابة عند دخول الإستعمار الفرنسي، وكان ذلك نتيجة لعمل الزوايا بأموال الوقف، حتى ولو أن هذا التعليم كان متخلفا نوعا ما مقارنة بالتعليم الأوروبي، لكن هذا يعود إلى دخول الحضارة الإسلامية عصور الإنحطاط، وليس هي مشكلة الزوايا والطرق الصوفية التي لا يمكن فصلها عن بيئتها.كما لا يجب أن ننفي دورها الوطني حيث كانت وراء كل المقاومات ضد الإستعمار الفرنسي في القرن19، وكل قادة المقاومات من الطرق الصوفية بإستثناء المقراني الذي أستعان بالشيخ الحداد شيخ الطريقة الرحمانية، ونظرا لإدراك الإستعمار دورها في الكفاح ضده، شرع مخططو الإستراتيجيات الإستعمارية في دراسة هذه الطرق الصوفية والزوايا بهدف إيجاد وسائل لإحتوائها وتشويهها وإضعاف تأثيرها على المجتمع الجزائري، فظهرت عدة دراسات في الموضوع، ومنها دراسات أوكتاف دوبون وكافيي كوبولاني التي أستندت عليها الإستراتيجيات الإستعمارية آنذاك.لاننفي ظهور بعض الإنحرافات في ممارسات الزوايا والطرق الصوفية، لكن ليس بهذه المبالغة التي غرست في ذهن الجزائريين بعد 1962، فكل ما قيل كانت أكاذيب عنها، وهي نتيجة لإستمرار الصراع بين الحركة الإصلاحية الممثلة في جمعية العلماء المسلمين وهذه الطرق الصوفية، وبما أن أعضاء من جمعية العلماء هي التي سيطرت على المدرسة، فإنها أستغلت ذلك لتشويه الطرق الصوفية والزوايا ولدورها الوطني، ويدخل في هذا التشويه الحديث أكثر عن الشيخين بن باديس والإبراهيمي دون إشارات لنجم شمال أفريقيا التي أنبثق عنها حزب الشعب ثم الحركة من أجل الإنتصار للحريات الديمقراطية، ومنها المنظمة الخاصة، فمن هذه التظيمات انبثقت ثورة أول نوفمبر1954، وليس من جمعية العلماء، كما روج في المدرسة قبل 1988 للأسف الشديد، مما جعل بن يوسف بن خدة يقول انه كتب كتابه "جذور أول نوفمبر1954" إلا لدحض هذه الأكذوبة، ولعل هو الذي دفع الشهيد بوضياف أول قائد للثورة إلى أن يصرخ في وجه الصحفيين بشكل مبالغ "أن جمعية العلماء لم تشارك في الثورة"، فنحن لا نذهب معه هذا المذهب، لكنه يدل على مدى الألم الذي كان يشعر به بوضياف من تزوير تاريخي كبير مورس في المدرسة بعد1962، ونستغرب لما لا نشير أن الكثير من مناضلي هذه التنظيمات الإستقلالية كانوا من أبناء الزوايا والطرق الصوفية، خاصة المهاجرين إلى فرنسا الذين أنشأوا نجم شمال افريقيا في1926، خاصة من أبناء الزاوية الرحمانية في منطقة القبائل، لكن هؤلاء بفعل إسلامهم المرن الغير منغلق، تفتحوا على الأفكار الأوروبية التي ساعتهم في تطوير النضال الوطني بأساليب وأفكار حديثة.كما كان لهذ الزوايا والطرق الصوفية دورا كبير أثناء الثورة، لكن تم إستبعادها بعد1962 بسبب سيطرة جمعية العلماء على المدرسة ومجيء أساتذة من المشرق العربي، فالبعض من هؤلاء الأساتذة المصريين كانوا من الإخوان المسلمين الذي أراد عبد الناصر التخلص منهم بإرسالهم في بعثات تعليمية إلى عدة بلدان، فشرع كل هؤلاء الأساتذة والمعلمين في نشر توجهات ايديولوجية دينية وقومية عربية نشأت في المشرق، وقد تنبه بومدين في أواخر حياته لما ألحق بالمدرسة على يد هؤلاء، فجاء بمصطفى لشرف لإعادة النظر ولإصلاح جذري للمدرسة الجزائرية، لكنه أسقط بفعل ضغوط هؤلاء المؤدلجين الذين أستولوا على المدرسة، واستخدمت ضده كل أساليب التشويه والتهم بالرغم من أنه وطنيا حتى النخاع، ومن قدماء حزب الشعب الجزائري، فهي نفس الأساليب تستخدم من هؤلاء ضد كل من يحاول تحديث التعليم، فيتهمونه بأنه يريد المساس بالإسلام، وهو في الحقيقة ليس صحيحا، بل هو مساسا بأيديولوجياتهم الغريبة عن مجتمعنا، والتي لم تتمكن من الإنتشار إلا بتقويض الزوايا والطرق الصوفية، وساعدها في ذلك ممارسات بعض الحداثيين الذين يرون في الزوايا والطرق الصوفية أنها تخلف وإنحطاط، كما كانوا يرون ذلك في كل ما هو نابع من عمق مجتمعنا وقيمه، وكأن التقدم والحداثة هو في إتباع أوروبا في كل شيء، فواصل هؤلاء دون وعي منهم نفس الممارسات الإستعمارية لتفكيك المجتمع الجزائري بدل أن ينطلقوا من واقعنا الإجتماعي لتطويره وتحديثه، ولهذا فقد الجزائريون مرجعيتهم الوطنية الدينية لتفسح المجال لغزو تيارات دينية متطرفة غريبة عن ممارساتنا المتسمة بالتسامح والتفتح.لكن أدركنا بعد بروز الإرهاب أن سببه هو غياب هذه المرجعية، فعاد الإهتمام بالزوايا والطرق الصوفية من جديد لمواجهة الإرهاب والتطرف الديني، وقد لعبت هذه الزوايا دورا كبيرا في ذلك، بل أيضا في مواجهة كل الغزو الديني الذي تعرضت له الجزائر سواء التبشير المسيحي أو الغزو الديني الذي جاءنا من المشرق العربي كالوهابية المنتجة للإرهاب.لكن لسوء الحظ مرة أخرى يعود الإستغلال والضغط على هذه الزوايا والطرق الصوفية في السنوات الأخيرة بهدف توظيفها في الصراعات السياسية، مما أضر بها كثيرا، ثم يأتي شكيب خليل منذ حوالي سنة لإستغلالها أيضا تحت ضغوط، وهذا ما يدفعنا إلى الشك بأن هناك مخطط لإعادة ضرب هذه الزوايا حتى ولو كان لأهداف سلطوية، لكن ألا ندرك أنه كلما ضعفت الزوايا والطرق الصوفية فقدنا مرجعيتنا الدينية الوطنية، ومعها الجدار الوطني الذي يحمي أبناءنا من التطرف الديني والإرهاب؟، ونحن طبعا لا ننفي مدى التوظيف الأمريكي للجماعات الإرهابية وتشجيع غير مباشر لنموها لتحقيق عدة أهداف إستراتيجية في منطقتنا، ومنها إيجاد ذرائع لإعادة إنتشارها العسكري في منطقتنا وبالقرب من المناطق الغنية بالطاقة والثروات تحت غطاء محاربة الإرهاب إضافة إلى سعيها لإقلاق أمني لأوروبا التي تنافسها على الزعامة العالمية، ولهذا نطرح ماعلاقة شكيب خليل آنذاك المقرب من أمريكا بالزوايا والطرق الصوفية؟ فهل درست القضية بإتقان وتدقيق، وأدركنا مدى إنعكاسات ذلك على مرجعيتنا الوطنية الدينية وأمننا الإستراتيجي؟يجب علينا أن نعيد لهذه الزوايا والطرق الصوفية دورها التربوي والتعليمي الديني المتسم بالروحانية والتسامح الذي نحتاجه اليوم، فلنلاحظ أن كل الدول التي كان لهذه الزوايا والطرق الصوفية دور في المجتمع هي التي قطعت أشواطا في التقدم والتفتح على العالم والإنخراط الذكي فيه مثل تركيا.كما يجب تحرير مدرستنا من كل هذه التيارات الدينية المؤدلجة التي تتغطى تحت شعار التربية الإسلامية وغيرها لنشر أيديولوجياتها ضمن تلاميذ بريئين، فقد كان أغلب الإرهابيين في التسعينيات ينحدرون من التعليم، فلتكن المدرسة مكان لتلقي العلوم فقط، أما التربية الروحية والدينية، فلتكن من مهام المدارس القرآنية التي ستتبع للطرق الصوفية، لأنها أكثر إرتباطا بالأرض والوطن وبخصوصيات الجزائر، وستكون دعامة لأمننا الإستراتيجي المهدد من أفكار تنتج لنا التطرف والإرهاب، وبتعبير آخر تكون لنا مدرستين أحدها تعليمية ومدنية كلها وأخرى دينية وروحية. 

المصدر: موقع الحوار المتمدن


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معايير الصدق والثبات في البحوث الكمية والكيفية

أ.د فضيل دليو جامعة قسنطينة3 مقدمة   من المعروف أن البحوث في العلوم الاجتماعية قد تصنف تبعا لمؤشر طبيعة البيانات المستخدمة إلى بحوث كمية وبحوث كيفية. تَستخدِم الأولى تقنيات كمية مباشرة وتلجأ إلى العد والقياس والإحصاء... أما البحوث الكيفية فهي غالبا ما تخلو من التكميم والقياس، ولا تستعمل التحاليل الإحصائية بل تعتمد على التحليل الكيفي وتركز على الفهم من خلال التفاعل مع الموضوع والظاهرة المدروسة.

أهم ثمانية كتب حول نظريات علوم الإعلام والاتصال

باديس لونيس كثرت في الآونة الأخيرة حركة التأليف في مجال علوم الإعلام والاتصال بتخصصاته المختلفة في المنطقة العربية، ولكن مع هذه الحركة والحركية يبقى مجال نظريات الإعلام والاتصال يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. ليس من ناحية الكم فقط ولكن من ناحية الكيف بشكل خاص. لأن ما يُنتج هنا وهناك صار مبتذلا بشكل واضح، بل إن الكثير من الذين استسهلوا هذا المجال لم يكلفوا أنفسهم عناء إضافة أي شيء جديد حتى ولو كان من باب تنويع المراجع أو من باب التحليل والنقد، ما يفتح الباب واسعا حول التساؤل عن جدوى التأليف مادام صاحبها يجتر ما هو موجود أصلا من دون إضافة؟ هذا فضلا عن الحديث عن السرقات العلمية الموصوفة وذلك موضوع آخر.

"جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها"، كتاب الدكتور قسايسية الجديد

تدعمت المكتبة العربية في الايام القليلة الماضية بإصدار جديد عن دار الورسم للدكتور الجزائري علي قسايسية، عضو هيئة التدريس بكلية العلوم السياسية والإعلام بجامعة الجزائر3. الكتاب جاء تحت عنوان: جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها (من المتفرجين الى المبحرين الافتراصيين).